الجمعة، 22 يناير 2010

قلة تربية

كلما سمعت أن عندنا وزارة «للتربية والتعليم»، لا أستطيع أن أمسك الضحكة، وأتساءل لماذا لم يحدثوا وزارة للبترول أيضا؟ ستقولون أين هو البترول؟ وأجيبكم أين هي التربية؟ لو فتشت عنها بالمجهر، في ثانويات البلاد، لن تجد إلا قلتها. حجرات الدرس تحولت إلى أمكنة لتعاطي القرقوبي والحشيش، واغتصاب الفتيات، وتكسير ضلوع المدرسين،... واسألوا نور الدين صايم، أستاذ الفلسفة في وجدة، الذي بدأ درسا في ثانوية القاضي بن عربي، وأنهاه في إحدى المصحات، بعجز أربعة أشهر، بعد أن جرب فيه أحد تلامذته ما تعلم من دروس في «الكاراطي»، وكسر ذراعه اليمنى،... وعاشت التربية! لو كانت وزارة التعليم واقعية مع نفسها، لأضافت إلى اسمها تلك الكلمة، التي ذكرناها آنفا، رفعا لأي لبس: وزارة «قلة» التربية، وليس وزارة التربية.
مئات المقالات تدبج حول فوضى قطاع التعليم، لكن مشاهد صغيرة، أحيانا، تغنيك عن كل ما يكتب، ومنها منظر الأستاذ بذراعه المكسورة، وهو يوجه نداءه اليائس إلى وزير «قلتها»: «أقدم نداء إلى السيد وزير التربية الوطنية باسم جميع المدرسين والمدرسات في كل بقعة من الأرض المغربية: أنا قدمت يدا مكسورة في سبيل المدرسة، وغدا سيقدم مدرس آخر يدا مقطوعة، وبعد غد سيقطع رأس مدرس آخر على أعتاب المدرسة. نرجو منكم، سيدي الوزير المحترم، أن تعيدوا الاعتبار إلى هذا المدرس الذي لا يدافع عنه أحد.»... ما يحز في النفس أن الأستاذ يصر على ملاحقة التلميذ أمام القضاء، ويعتقد أن المحاكم وحدها يمكن أن ترد إليه الاعتبار... جميعا فكرنا في تكسير ضلوع أحد الأساتذة، في سنوات الدراسة، إما لأنه أهاننا أمام الآخرين، أو ظلمنا في الامتحان، أو فقط لأننا كرهناه، دون سبب، كما كرهنا أشياء كثيرة أيام المراهقة. لكننا لم نفعل، لحسن الحظ. كانت مجرد أمنية، مثل حلمنا بأن نفيق ذات صباح، ونجد المدرسة قد هدمت، ونبيت معفيين من الدراسة إلى أجل غير مسمى. الحديث عن الأساتذة حديث ذو شجون، بل إنّ كلمة «شجون» لا تليق إلا بهم.. بأساتذة اللغة العربية على الخصوص. لا أعرف لماذا اعتقدت دائما أن «الحزن» كلمة عادية، و»الشجن» لا توجد إلا في الإنشاء، والمحفوظات، والتلاوة، والصرف والتحويل، مثل «حبذا» و«هب» و»صه» و»اعلوط»... أحيانا، أفتح فصلا دراسيا في رأسي، أجلس فيه كل المدرسين الذين مررت بأقسامهم، من التحضيري إلى الدكتوراه، وآخذ ورقة وأبدأ «النداء بالأسماء»، كما كانوا يفعلون معنا كل صباح، على سبيل التسلية. يحدث أن أعرف بعض الوجوه وأنسى أسماءها، أو أتعرف على بعض الأسماء وأجهل الوجوه، كما يحدث لأي أستاذ في بداية موسم. هناك أساتذة، مروا في حياتنا مثل أشباح، لا تكاد تستحضر أسماءهم. وهناك آخرون تتذكر ملامحهم، كأنهم أفراد من العائلة، وبقليل من التركيز، ترى الدروس التي لقنوك إياها، واضحة، بالطباشير الأبيض على السبورة السوداء، لا يمكن أن تنساهم لأنهم زرعوا شيئا منهم في شخصيتك إلى الأبد. تتذكرهم بطرق التدريس، أو شخصياتهم المتميزة، أو ربما لطرافتهم، أو فظاظتهم، أو ميلهم المرضي إلى الكذب. عشرات الأساتذة تعاقبوا علينا، بعضهم تعلم فينا، كما يتعلم الحجام في رؤوس الأيتام، وبعضهم فرغ فينا عقده النفسية بالعصي والصفعات، وآخرون تعاملوا معنا كأننا أبناء لهم، كأنهم خرجوا من قصيدة أحمد شوقي التي تريد تحبيب المدرسة للصغار: «أنا المدرسة اجعلني كأم لا تمل عني// ولا تفزع كمأخوذ من البيت إلى السجن// وآباء أحبوك وما أنت لهم بابن»... نحن أيضا، درسنا أساتذة غريبو الأطوار: أستاذ الاجتماعيات الذي يضع كوفية على عنقه وينادينا بـ«الرفاق»، وأستاذ العربية الذي يترك دروس النحو جانبا، ليقول لنا إن الله غير موجود، وزميله في التربية الإسلامية الذي يرفض أن تدخل عنده الفتيات إن لم يضعن الحجاب... لكننا لم نضربهم يوما بـ«الكاراطي». وحتى لو حدث، ما كانوا ليطلبوا حقهم في المحكمة... أعتقد أن هذه هي التربية. 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق