السبت، 9 يناير 2010

مواقف زائفة



«الحنزازة» الذين حضروا برنامج «حوار» الأخير لم تفتهم لقطة معبرة كان بطلها الوزير المعين حديثا في منصب المكلف بالعلاقات مع البرلمان، إدريس لشكر. فعندما رفع لشكر رجله ليجلس على طريقة «ساركوزي» ظهرت «سوميلة» حذائه وعليها «التيكيتة» التي تحمل الثمن.
فسعادة الوزير جاء إلى برنامج مصطفى العلوي لابسا الحذاء نفسه الذي اشتراه بمناسبة تنصيبه وزيرا في القصر الملكي، دون أن يكلف نفسه عناء إزالة «الكاغيط» الذي يحمل سعر الحذاء.
وكأنه يقول للجميع مزهوا بحقيبته الوزارية الجديدة «هانتوما عرفتوني دابا شحال كانلبس فالصباط».
وقد ذكرتني هذه اللقطة بعبارة كان يرددها مديرنا في الإعدادية، سامحه الله، عندما يأتي عنده أحد التلاميذ ليطلب منه المسامحة على التأخر، مهددا: «سير ولا غادي نوري طاصيلتك شحال كانلبس فالصباط»، يعني «سير ولا غادي نشعل معاك بشي بوطية».
ولا بد أن لشكر عندما سمع حكيم بنشماش، الذي يبذل قصارى جهده لكي يشغل الفراغ الذي خلفه فتح الله والعلو في البرلمان، يتهم أحد أعضاء مجلس مدينة الرباط المنتمين إلى العدالة والتنمية بقوله إن المجلس عمروه «العروبية وريافة»، ضحك ملء شدقيه، لأنه يعرف أن لفظ «العروبية» لا يعود عليه، رغم دخوله «الموقف» السياسي «بصباطه».
و«الموقف» في المغرب كلمة تعني شيئين اثنين، أولا الموقف كفكرة يؤمن بها الإنسان ولا يقبل أن يغير بسببها «كبوطه» أو «صباطه» في حالة لشكر، ولا أن يغير البندقية من كتف إلى كتف عند أول امتحان. ثم هناك ثانيا «الموقف»، ذلك المكان الذي يأتي إليه كل من يقف على باب الله بانتظار من يشحنه في سيارته أو شاحنته ليشغله في الحقل أو البناء أو ما شابه.
والواقع أننا في المغرب لا نلمس فرقا كبيرا بين الموقفين، فمثلما «للمواقفية» موقفهم الذي يقصدونه كل صباح، فالسياسيون أيضا لهم «موقفهم» الذي يقفون فيه على باب الله بانتظار أن يأتي تعديل وزاري أو حملة انتخابية ويتم اختيارهم من بين الواقفين في الصف الطويل للراغبين في تذوق عسل الوزارة.
ولكل سياسي «موقفه» الثابت الذي يأتي إليه كل صباح بانتظار يوم السعد، ولكثرة ثبات بعضهم في مواقفهم أصبحوا معروفين عند «طاشرونات» الحكومة ومنعشيها العقاريين الذين يمسكون «شانطيات» التعديلات الوزارية وينزلون إلى الشارع السياسي ليتخيروا الرؤوس.
ويبدو أنه بسبب أن السوق ناشفة هذه الأيام، فإن التعديل الحكومي الأخير لم يشمل سوى خمس وزارات. وبانتظار أن يطلع السوق قليلا وتدخل سلعة جديدة إلى الموقف السياسي، فإنه لا يسعنا إلا أن نوسع «قشاباتنا» لكي يكون بمقدورنا تحمل هذه السخرية السوداء المسماة حكومة إلى حدود سنة 2012.
وربما كان اقتحام الأصالة والمعاصرة، أو من كان يسميه لشكر «الوافد الجديد» قبل أن يدخل هذا الأخير الحكومة، للموقف السياسي من جهة صخور الرحامنة، شبيها بدخول «سلعة جديدة» للرحبة.
فهدفه المستقبلي، كما عبر عن ذلك في «حفل» عقيقة حركته المقام بنادي الدجيتسكي بالرباط ذات صيف، هو رفع سقف المنافسة السياسية، أي أن هدفه من وراء هذه الحركة هو أن يرفع «النيفو» الذي طاح خلال الانتخابات الأخيرة.
«الموقف» فيه وفيه. فيه ذوو العاهات المستديمة الذين بمجرد ما يدخلون وزارة يصيبوا أجهزتها بالعطب.
فيه العرض والطلب، وفيه «الشناقة» ولصوص «البزاطم»، أو الحقائب على وجه التحديد.
والموقف السياسي فيه وفيه أيضا.
فيه الراسخون في المعارضة، الذين يرونها دائما معزة ويصرون على بقائها معزة حتى ولو طارت.
فيه الراسخون في الولاء والراضخون، المرضيّ عليهم، الذين لكثرة انحنائهم أصبح من الصعب عليهم أن يقفوا موقفا سليما دون أن يصابوا بآلام مبرحة في الظهر.
فيه أصحاب السعادة الذين يبدو أنهم سجلوا هذه السعادة بأسمائهم وأسماء زوجاتهم وأبنائهم وحرموا منها بقية أبناء الشعب.
فيه أبناء العائلات الكريمة التي تتوارث الوزارات أبا عن جد، والتي لا يستريح لها بال حتى تصحب معها أبناءها وعقيلاتها إلى قبة البرلمان إلى جانب الأزواج المحترمين.
«الموقف» ليس دائما مكانا تحت الشمس الحارقة يقف فيه الإنسان على باب الله.
«الموقف» يمكن أن يكون مقعدا مريحا يجلس فوقه أصحاب المواقف ويدورون معه أينما دار بهم. ويمكن أن يكون ديوانا وزاريا بالنسبة إلى أصحاب «المواقف» الصلبة التي لا تلين إلا بالسيارة التي تحمل شارة الحكومة.
الموقف السياسي كان، إلى عهد قريب، يقود صاحبه إلى السجن، أما الآن فإذا لم يقد صاحبه إلى إحدى الوزارات فإنه يمكن أن ينتهي به مصفقا وراء مظاهرة أو بكشكوشة خارجة وراء أحد الميكروفونات المنتشرة هذه الأيام في كل مكان.
«الموقف» إذا لم تعرف كيف تقف فيه يمكن أن تقضي حياتك كلها بانتظار من يشتري منك مواقفك المصيرية، وفي آخر العمر عندما ترى أن كل رفاقك تخلوا عن مواقفهم و«ضربوا» أيديهم بعد أن غيروا المعطف وأصبحوا يسكنون في الفيلا ولديهم سائق خاص، تجمع كل مواقفك في كتاب مذكرات وتبيعها بالجملة لإحدى دور النشر.
كثيرون أتوا إلى «الموقف» ودسوا رؤوسهم بين الرؤوس منتظرين أن يأتي «قطاع الريوس» ويقطفهم لكي يعلقهم على باب الحكومة الموقرة. لكن لسوء حظهم بقوا ثابتين على «الموقف» إلى أن طابوا من الوقوف و«خمجت» رؤوسهم وسقطت.
فهؤلاء السياسيون المساكين لم يستفيدوا من الدرس الذي تقدمه الطبيعة إلى بني البشر، والذي حكمته تتجلى في أن الثمرة الناضجة هي أول ما يسقط من الشجرة.
فهم من فرط نياتهم الحسنة لم يفهموا أن العمل السياسي عندنا يتطلب قليلا من عدم النضج، أي بالعربية تاعرابت أن يكون «بنادم باقي خضر شوية»، لأن عمر العمل الحكومي طويل وفترة» الخموجية» تأتي بعد وليس قبل الاستوزار. وأمامكم لائحة الوزراء الذين دخلوا الحكومة ومكثوا فيها سنوات طوالا إلى أن «خمجو وخنزو فلوس».
ولعله لهذا السبب يقول المغاربة في وصف بعض الأثرياء إنهم «خنزو فلوس»، فالخنوزية عندنا مرتبطة بالمال، والمال بدوره يسميه المغاربة وسخ الدنيا. والعلاقة بين الاثنين وثيقة جدا، إلا من رحم ربك.
ويبقى أن أصحاب الموقف الذين ينتظرون كل صباح من يشحنهم إلى الحقول أو أوراش البناء في شاحنته أنقى وأطهر بكثير من بعض السياسيين الذين يتوافدون هذه الأيام كل صباح على «الموقف» السياسي بانتظار من يشحنهم إلى دواوينهم الوزارية.
فهؤلاء على الأقل يصورون خبزهم من عرق جبينهم ويقطفون الثمار من الحقول ويبنون البيوت بعضلاتهم، وليسوا مثل بعض السياسيين الذين يقطفون ثمار غيرهم ويبنون مستقبلهم على ظهر الجماهير التي ظلوا يخدعونها بمواقف راسخة اتضح في الأخير أنها لم تكن سوى «مواقف» زائفة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق