الثلاثاء، 8 ديسمبر 2009

بين المخارج المشرِّفة والتخريجات المؤسفة

بين المخارج المشرِّفة والتخريجات المؤسفة

لنفترض أن مجلس الأمن أقر التوجه الفلسطيني. ماذا سوف يحصل بعدها؟ لقد أقرت هيئة الأمم المتحدة حدودا أفضل بكثير هي حدود التقسيم لعام 1947. ووافقت عليها الحركة الصهيونية في حينه، فماذا حصل؟ احتلت إسرائيل غالبية القسم المقرر أن تقوم عليه دولة عربية في فلسطين. سيكون القرار المقترح تراجعا عن قرار التقسيم، وهو القرار الدولي الوحيد الذي يتضمن حدودا مرسمة بين الكيانين. وسيكون دون حق العودة. ولن تطبق إسرائيل قرار مجلس الأمن، بل سوف تدعو السلطة إلى العودة إلى التفاوض لأنه لا شيء يلزمها سوى المفاوضات برعاية أمريكية.
لقد أعلنت دولة فلسطينية عام 1988 في الجزائر. ولكن قلة تذكر أن الإعلان جاء بناء على قرار التقسيم عام 1947. أما الإعلان الحالي فيرغب في أن يأتي بناء على قرار مجلس الأمن على حدود 1967، أي أن السلطة «تهدد» إسرائيل بالتراجع عن الإعلان السابق، ولتهتز أركان الهيكل. وسوف تبقى السلطة في حدودها الحالية، أي أنها سوف تتحول في أفضل الحالات إلى دولة محاصرة بحدود مؤقتة على نمط اقتراح موفاز، ولكنه سوف يبدو كأنه إنجاز وتحدّ.
ويستشهد البعض بالغضب الإسرائيلي من التحرك الفلسطيني لإثبات صحته. هذا ليس دليلا على الإطلاق. فمن الطبيعي أن تعارض إسرائيل، لتحصّل على ما هو أفضل لها دائما. فهذه الدولة، خلافا للعرب، ترى في كل شيء خسارة لها، وتنازلا منها، ولا تتوقف عن البكاء والتمسكن، حتى حين يرى العرب قرار مجلس الأمن انتصارا لهم، رغم أنه لن يطبق.
إن أي مخرج مشرف يتطلب تغييرا ما في الاستراتيجية التي قادت إلى المأزق.
حين تصل قيادة إلى وضع تهدد فيه بالاستقالة وتخرج من لدنها في الوقت ذاته ثلاث استراتيجيات متضاربة، فلا يعني هذا سوى أنها في مأزق. ومأزق القيادة السياسية إذا ارتبط بخيار سياسي يكاد يكون تاريخيا، ودافعت عنه وربطت مصيرها ومستقبلها به في مرحلة تاريخية معينة، هو مأزق لهذا الخيار. وإذا تورط قسم كبير من نخب الشعب الفلسطيني وجمهوره في هذا الخيار، فإن المأزق هو مأزق شعبي. والشماتة في مثل هذه الحالة هي حماقة، فحال مرتكبها كحال المتشفي بمأساته.
تتطلب المسؤولية السياسية، إذن، حوارا عربيا وفلسطينيا للبحث عن مخارج. وأقول مخارج مشرفة، وليس حلولا ولا استراتيجيات، لأن الاستراتيجية في رأي الكاتب غير مرتبطة بالوعظ والتبشير، بل بالهدف، وبمقومات هذه الاستراتيجية المادية وعناصرها وحَمَلَتِها، وبالإرادة أيضا. وهذه كلها لا يمكن فرضها.
فلا يوجد، في رأيي، حل لقضية فلسطين، ناهيك عن حلول، بل إما أن توجد استراتيجية مواجهة عربية أو لا توجد. والمقاومة هي حالة بينية لا بد من توفرها إلى أن توجد استراتيجية مواجهة عربية. ومهمة المقاومة هي تحرير الأرض بالمعنى القطري للكلمة، ومنع تحوّل إسرائيل إلى حالة طبيعية في المنطقة، وتقديم نماذج ناجحة في مواجهة إسرائيل، وتقديم الدليل على أن هذه المواجهة ممكنة، وتطوير إرادة المجتمعات العربية، ومنع فرض حلول غير عادلة... وغيرها.
وقد حقّقت المقاومة إنجازات في هذه المجالات. ولا يمكن فرض حلول أو استراتيجيات على من تبنّى حتى الآن استراتيجية محدّدة جدا مناقضة لما نقترحه. ولكن لا بد من طرح المخارج عليه لكي لا تُفَسَّر الأمورُ بأن جزءًا من الشعب الفلسطيني ينتظر فشل الجزء الآخر ليتفرج على عملية سقوطه، أو ذهابه في طريق الفشل إلى نهايةٍ يدفع الجميع ثمنها. فقد وُقِّعَ أوسلو، ولكن من دفع ثمنه هو من وقَّعه ومن عارضه، وحبذا لو طرحت مخارج لعدم توقيعه من قبل الدول العربية، بدلا عن الدفع باتجاهه أو انتظار فشله.
لن تعود السلطة الفلسطينية إلى خيار المقاومة. وما زالت الدول العربية غير راغبة في تبني خيار المواجهة من جديد. وهو، في رأينا، أمر لا بد من حصوله في النهاية بهذه الأنظمة أو بدونها، فإن أي تحديث وتطوير للعالم العربي، وأي نهوض ديمقراطي، وأي نهضة، وحتى أي إلغاء للتأشيرات بين الدول العربية سوف يؤدي إلى التصادم مع
إسرائيل.
ولكن في هذه الأثناء، كيف يمكن أن تقترح على جزء كبير من الشعب الفلسطيني مخارج مشرّفة؟ لا بد أولا من الاعتراف بفشل طريق أوسلو. والتلويح الجدي يكون بالعودة إلى الوحدة الوطنية الفلسطينية وإقامة حكومة وحدة وطنية فلسطينية. هذا تهديد، وهو تهديد جدي، ويجب أن يُنَفَّذ، لأن البديل قاد إلى مأزق. ثم لا بد من وضع برنامج سياسي مشترك يلزم الجميع، وذلك في مقابل تخلي السلطة عن التنسيق الأمني مع إسرائيل.
أما بالنسبة إلى العودة إلى المفاوضات. فلا عودة إلى المسارات المنفصلة لأنها تتيح لإسرائيل الاستفراد بكل طرف على حدة بل وخلق وهم حول وجود تنافس معيب ليس له وجود بين المسارات. ومن هنا، فإن أي خيار تفاوضي لا بد أن يكون بمنطق مبادرة السلام العربية الشاملة لفلسطين وسوريا ولبنان سوية، إذ لا يمكن التفاوض على القدس وعلى حق العودة فلسطينيا، ولا يجوز أن توقع سوريا ولبنان اتفاقيات سلام مع إسرائيل بناء على حدود الرابع من حزيران (يونيو)، ودون حق العودة. ومن يشكك في نوايا سوريا فليلزمها بالتنسيق معه من خلال حكومة وحدة وطنية فلسطينية، وفي مسار تفاوضي عربي واحد.
لن تقبل إسرائيل بما نطرحه هنا للآخرين كمخرج. فكاتب هذه السطور يرى أصلا أنه يجب إلغاء مبادرة السلام العربية. ولكنه كلام مطروح كمخرج لغيرنا بمنطقه هو، منطق التفاوض، وليس بمنطق كاتب هذا المقال. ولكنه لو كان منطقا متماسكا على الأقل، فسوف يطرح مخرجا مشرفا. في حالة فشل مثل هذه المبادرة، وسوف تفشل، يجب أن تدعو الدول العربية الأردن ومصر إلى إلغاء السلام المنفرد مع إسرائيل. فقط في مثل هذه الحالة تطرح خيارات بديلة، خيارات مواجهة، يقود إليها منطق التفاوض، وهي تحول المأزق إلى مأزق إسرائيلي وأمريكي.
وهي تطرح حلا لاستعادة التضامن العربي بلغة لا يريد النظام الرسمي العربي حاليا التخلي عنها. حسنا، من لا يريد التخلي عن منطق التفاوض فليطْرَحه على الأقل بشكلٍ ناجعٍ يحرجُ ويقلق إسرائيل وأمريكا فعلا، ويلزم العرب بطرح خيارات أخرى. وباختصار، لا مخرج مشرفا دون التخلي عن مسار أوسلو.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق