كانت أولى معرفتي بصوت أم كلثوم ببيت صديقي محمد بالأردن
ترجمة وإعداد- بشار الخطيب
كان عملي الجديد يقتضي مني وضع العلب المعدنية، التي لم يكتمل صنعها بعد، في آلة تقوم بلصق قاع العلبة بالإطار المعدني. كانت الضوضاء شيئا رهيبا في ذلك المبنى، لا صوت غير ضوضاء الطرق والخبط المتواصل وصرير الآلات الرهيب من الفجر حتى الغسق. كاد رأسي ينفجر من شدة الأصوات المزعجة. لكن هذا لم يكن شيئا مقارنة برغبة الآلة الواضحة في تمزيق يدي في كل مرة أمدها للصق القاع المعدني بالعلبة. ومازلت حتى الآن أحمل ندبا بطول إنشين في يدي اليمنى بسبب هذه الآلة الجهنمية. وفي مرة من المرات، كان لوح من المعدن ترك على الأرض فسبب لي جرحا عميقا في قدمي عندما دست عليه عن طريق الخطأ. وفي كل مرة كنت أهرع إلى المستشفى في فوضى من الدماء. كان مشرفو المصنع قلقين من غيابي عن العمل في المصنع أكثر من قلقهم على منع حوادث كهذه من الحصول في المستقبل بتطوير إجراءات السلامة. كانوا يدفعون لي 30 فلسا في اليوم عن عمل 12 ساعة متواصلة. وكان بديل ساعات العمل الإضافية 5 فلسات للساعة الواحدة. كان السيد حجازي يدفع للعمال الفلسطينيين10 فلسات إضافية تعبيرا عن تضامنه معنا. آنذاك كنت قد بدأت في التعرف عن قرب على شخصية هذا الرجل. كنت صادقا في وعدي له بأني لن أشتكي أو أسأله معروفا آخر، ولكنه سرعان ما نقلني للعمل على آلة أقل خطورة حيث كان لدي مرؤوسان، أحدهما كان في عمر أبي، وكانت هذه أولى تجاربي كرئيس في العمل.
مضطهد الفلسطينيين
لم يكن كل أعضاء الإدارة متعاطفين مع الفلسطينيين مثل السيد حجازي. كان لدينا مشرف يدعى حمودة. لا يملك من أصابع يده اليمنى غير الخنصر و الإبهام نتيجة حادث عمل وقع له عندما كان يعمل في أحد المحاجر. كان هذا العمل الصعب في تكسير الصخور سببا في فقدان حمودة أصابعه حيث صادف عمله في المحجر استخدام الديناميت، ولسوء حظه خسر أصابعه، في حين بقيت الصخور على حالها. ربما كان هذا الحادث السبب في جعل حمودة يشعر بمرارة فظيعة تسببت في معاملته السيئة لنا، غير أننا لم نكن حينها مهتمين بالسبب النفسي وراء اضطهاده المتواصل لنا في العمل. كان حمودة يراقب العمال الفلسطينيين على مدار الساعة، بل كان يتجسس عليهم في أحيان ويفتشهم عند خروجهم من المصنع، متهما إياهم بالسرقة. باختصار جعل حمودة من حياتنا في المصنع جحيما يوميا. وفي يوم من الأيام، لم يأت حمودة إلى العمل في المصنع وبعد ذلك علمنا أنه طرد من العمل بسبب سرقته سبائك اللحام من المصنع. كنا سعيدين بسماع هذا الخبر وكنا نحكي لبعضنا البعض، على مدى أيام، تفاصيل طرده التي كنا نعرفها، مضيفين من خيالنا تفاصيل أخرى.
سياسة شد الحزام
في ذلك الوقت كان أخي كامل يعيل عبد الفتاح على دراسته في مصر، وكنت أنا المعيل الوحيد للعائلة في رفح. كنت واعيا ومدركا لحجم المسؤولية الكبيرة الملقاة على عاتقي. كانت ذكرى الفقر المدقع في المخيم ما زالت عالقة بذهني وكانت صورتها مازالت حية أمامي. وبعد الوصول إلى عمان بمدة أدركت أن الأفرشة على السطح كانت أرخص ثمنا من الأسرة، لذا أبدلت السرير بالفراش أملا في توفير بعض المال في ذلك الوقت وصلت إلى حل لمشكلة المشي نائما بأن أربط كاحليّ معا بالكوفية. كان التدخين موضة بين الشباب في ذلك الوقت وكان من المألوف أن ترى شابا بسيجارة بين شفتيه أو بين أصابعه، لكنني قررت أن لا ألجأ إلى هذه العادة المكلفة، كما لم أكن أذهب مع أصدقائي في خرجاتهم إلى المطاعم. كنت أوفر بحرص شديد كل فلس لا أحتاج إليه لضرورات الحياة لأرسله إلى عائلتي في رفح. لم تكن هناك حسابات في المصارف أو أي وسائل أخرى لإرسال المال إلى أهلينا في فلسطين، لذا كنا نعتمد على أمانة وحسن نية الفلسطينيين العائدين إلى غزة ليسلموا المال إلى أهلينا هناك مباشرة. أما بالنسبة إلى الـثلاثين جنيها التي أرسلها معي عمي فقد قمت بتحويل عشر جنيهات منها إلى العملة الأردنية (الدينار) لتغطية مصاريفي الأولى في عمان، فيما أرسلت العشرين الباقية إلى أمي في المخيم. كانت أمي تستعمل المال، الذي أرسلته في شراء الخضروات الطازجة لإخوتي، وكانت في المناسبات تشتري لهم بعضا من لحم الرأس. إذ كان لحم الرأس حينذاك هو اللحم الوحيد الذي كان ضمن إمكانياتها المتواضعة.
في أحد الأيام دعاني عامل قديم في المصنع يدعى موسى لأقترب منه. كان موسى يقضي يومه إما في التدخين المفرط أو في عمل المقالب للآخرين، لذا كنت متوجسا عندما دعاني إليه. أخرج موسى رزمة من البطاقات من بين يديه ووضعها أمامي مباشرة. احمر وجهي خجلا وأحسست بحرج شديد لم أستطع مداراته ما أن وقعت عيناي على تلك البطاقات. كانت تلك البطاقات عبارة عن صور لنساء عاريات. وإلى جانب خجلي، كنت أحس بذهول شديد حيث إنني لم أر شيئا كهذا من قبل. ضحك موسى وضرب على فخذه من ردة فعلي لرؤية الصور، ولكنه لحسن حظي لم يقل شيئا لباقي العمال عن استيائي من صوره. كان المصنع يحتوي على عاملتين، امرأة كبيرة في السن وابنتها. وبالرغم من أنهما لم يكونا على قدر عظيم من الجمال، فقد كان كثير من الرجال يجدون سببا ما للحديث معهما، بل حتى مغازلتهما.
ذكاء إداري
كانت مهمة تحميل الصناديق في الشاحنات في المخزن من أقل الأعمال شعبية في المصنع. فقد كانت هذه المهمة متعبة و منهكة للقوى وكان أغلب العمال يتهربون من القيام بها بأن ينشغلوا بمهمة أخرى عنها. وكان السيد حجازي قد أعفاني من هذه المهمة بسبب جسمي النحيل الذي لم يكن يتحمل رفع الصناديق الثقيلة. ولكنه سألني يوما: كيف يمكنني أن أمنع العمال من التهرب من تحميل الشاحنات بالصناديق؟ فكرت قليلا ثم اقترحت عليه حلا. قلت له : «دع السيدة و ابنتها تعملان في المخزن وبهذه الطريقة سيبدأ كل العمال في إظهار قوتهم وعضلاتهم للشابة و أمها!». ويبدو أن الخطة آتت أكلها وأصبحت الشاحنات تحمل في دقائق بدل أن كانت تحمل في ساعات من قبل.
كان أفضل أصدقائي في المصنع شاب فلسطيني يدعى محمد رشيدي، من يافا. كان يبدو لي مدنيا للغاية، فقد كانت عائلته من الطبقة الوسطى وكان يتحدث بلكنة مدنية تختلف تماما عن لكنتي القروية. كان والد محمد قد توفي وهو ما يزال صغيرا كوالدي وكان إخوته الثلاثة يعملون ويوفرون لعائلته المكونة من أمه و أختيه مستوى عيش محترم في الأردن. عندما دعاني أول مرة إلى منزله اندهشت، فقد كان منزله عبارة عن فيلا في حي راق في عمان. كانت أولى معرفتي بصوت أم كلثوم الآسر في هذا البيت. إذ كانت عائلة محمد تملك مشغل أسطوانات كهربائيا لم أكن رأيت مثله من قبل. بالنسبة إلي كان منزل محمد عبارة عن قطعة من النعيم المقيم. تعودت على الذهاب إلى منزلهم كل جمعة وكانت أم محمد تعد لنا الطعام الفلسطيني التقليدي الخاص بمدينة يافا، وكنا نذهب إلى السينما بعد ذلك حيث كانوا يعرضون ثلاثة أفلام قديمة دفعة واحدة. كان أفراد العائلة يدعونني إلى البيت كلما اشتروا أسطوانة غنائية جديدة. كما كان أول عهدي بالتلفزيون في بيتهم حيث مكنني هذا الاختراع العجيب من رؤية بطلي المفضل، جمال عبد الناصر، مما جعل هذه التجربة تلتصق بذاكرتي.
مضطهد الفلسطينيين
لم يكن كل أعضاء الإدارة متعاطفين مع الفلسطينيين مثل السيد حجازي. كان لدينا مشرف يدعى حمودة. لا يملك من أصابع يده اليمنى غير الخنصر و الإبهام نتيجة حادث عمل وقع له عندما كان يعمل في أحد المحاجر. كان هذا العمل الصعب في تكسير الصخور سببا في فقدان حمودة أصابعه حيث صادف عمله في المحجر استخدام الديناميت، ولسوء حظه خسر أصابعه، في حين بقيت الصخور على حالها. ربما كان هذا الحادث السبب في جعل حمودة يشعر بمرارة فظيعة تسببت في معاملته السيئة لنا، غير أننا لم نكن حينها مهتمين بالسبب النفسي وراء اضطهاده المتواصل لنا في العمل. كان حمودة يراقب العمال الفلسطينيين على مدار الساعة، بل كان يتجسس عليهم في أحيان ويفتشهم عند خروجهم من المصنع، متهما إياهم بالسرقة. باختصار جعل حمودة من حياتنا في المصنع جحيما يوميا. وفي يوم من الأيام، لم يأت حمودة إلى العمل في المصنع وبعد ذلك علمنا أنه طرد من العمل بسبب سرقته سبائك اللحام من المصنع. كنا سعيدين بسماع هذا الخبر وكنا نحكي لبعضنا البعض، على مدى أيام، تفاصيل طرده التي كنا نعرفها، مضيفين من خيالنا تفاصيل أخرى.
سياسة شد الحزام
في ذلك الوقت كان أخي كامل يعيل عبد الفتاح على دراسته في مصر، وكنت أنا المعيل الوحيد للعائلة في رفح. كنت واعيا ومدركا لحجم المسؤولية الكبيرة الملقاة على عاتقي. كانت ذكرى الفقر المدقع في المخيم ما زالت عالقة بذهني وكانت صورتها مازالت حية أمامي. وبعد الوصول إلى عمان بمدة أدركت أن الأفرشة على السطح كانت أرخص ثمنا من الأسرة، لذا أبدلت السرير بالفراش أملا في توفير بعض المال في ذلك الوقت وصلت إلى حل لمشكلة المشي نائما بأن أربط كاحليّ معا بالكوفية. كان التدخين موضة بين الشباب في ذلك الوقت وكان من المألوف أن ترى شابا بسيجارة بين شفتيه أو بين أصابعه، لكنني قررت أن لا ألجأ إلى هذه العادة المكلفة، كما لم أكن أذهب مع أصدقائي في خرجاتهم إلى المطاعم. كنت أوفر بحرص شديد كل فلس لا أحتاج إليه لضرورات الحياة لأرسله إلى عائلتي في رفح. لم تكن هناك حسابات في المصارف أو أي وسائل أخرى لإرسال المال إلى أهلينا في فلسطين، لذا كنا نعتمد على أمانة وحسن نية الفلسطينيين العائدين إلى غزة ليسلموا المال إلى أهلينا هناك مباشرة. أما بالنسبة إلى الـثلاثين جنيها التي أرسلها معي عمي فقد قمت بتحويل عشر جنيهات منها إلى العملة الأردنية (الدينار) لتغطية مصاريفي الأولى في عمان، فيما أرسلت العشرين الباقية إلى أمي في المخيم. كانت أمي تستعمل المال، الذي أرسلته في شراء الخضروات الطازجة لإخوتي، وكانت في المناسبات تشتري لهم بعضا من لحم الرأس. إذ كان لحم الرأس حينذاك هو اللحم الوحيد الذي كان ضمن إمكانياتها المتواضعة.
في أحد الأيام دعاني عامل قديم في المصنع يدعى موسى لأقترب منه. كان موسى يقضي يومه إما في التدخين المفرط أو في عمل المقالب للآخرين، لذا كنت متوجسا عندما دعاني إليه. أخرج موسى رزمة من البطاقات من بين يديه ووضعها أمامي مباشرة. احمر وجهي خجلا وأحسست بحرج شديد لم أستطع مداراته ما أن وقعت عيناي على تلك البطاقات. كانت تلك البطاقات عبارة عن صور لنساء عاريات. وإلى جانب خجلي، كنت أحس بذهول شديد حيث إنني لم أر شيئا كهذا من قبل. ضحك موسى وضرب على فخذه من ردة فعلي لرؤية الصور، ولكنه لحسن حظي لم يقل شيئا لباقي العمال عن استيائي من صوره. كان المصنع يحتوي على عاملتين، امرأة كبيرة في السن وابنتها. وبالرغم من أنهما لم يكونا على قدر عظيم من الجمال، فقد كان كثير من الرجال يجدون سببا ما للحديث معهما، بل حتى مغازلتهما.
ذكاء إداري
كانت مهمة تحميل الصناديق في الشاحنات في المخزن من أقل الأعمال شعبية في المصنع. فقد كانت هذه المهمة متعبة و منهكة للقوى وكان أغلب العمال يتهربون من القيام بها بأن ينشغلوا بمهمة أخرى عنها. وكان السيد حجازي قد أعفاني من هذه المهمة بسبب جسمي النحيل الذي لم يكن يتحمل رفع الصناديق الثقيلة. ولكنه سألني يوما: كيف يمكنني أن أمنع العمال من التهرب من تحميل الشاحنات بالصناديق؟ فكرت قليلا ثم اقترحت عليه حلا. قلت له : «دع السيدة و ابنتها تعملان في المخزن وبهذه الطريقة سيبدأ كل العمال في إظهار قوتهم وعضلاتهم للشابة و أمها!». ويبدو أن الخطة آتت أكلها وأصبحت الشاحنات تحمل في دقائق بدل أن كانت تحمل في ساعات من قبل.
كان أفضل أصدقائي في المصنع شاب فلسطيني يدعى محمد رشيدي، من يافا. كان يبدو لي مدنيا للغاية، فقد كانت عائلته من الطبقة الوسطى وكان يتحدث بلكنة مدنية تختلف تماما عن لكنتي القروية. كان والد محمد قد توفي وهو ما يزال صغيرا كوالدي وكان إخوته الثلاثة يعملون ويوفرون لعائلته المكونة من أمه و أختيه مستوى عيش محترم في الأردن. عندما دعاني أول مرة إلى منزله اندهشت، فقد كان منزله عبارة عن فيلا في حي راق في عمان. كانت أولى معرفتي بصوت أم كلثوم الآسر في هذا البيت. إذ كانت عائلة محمد تملك مشغل أسطوانات كهربائيا لم أكن رأيت مثله من قبل. بالنسبة إلي كان منزل محمد عبارة عن قطعة من النعيم المقيم. تعودت على الذهاب إلى منزلهم كل جمعة وكانت أم محمد تعد لنا الطعام الفلسطيني التقليدي الخاص بمدينة يافا، وكنا نذهب إلى السينما بعد ذلك حيث كانوا يعرضون ثلاثة أفلام قديمة دفعة واحدة. كان أفراد العائلة يدعونني إلى البيت كلما اشتروا أسطوانة غنائية جديدة. كما كان أول عهدي بالتلفزيون في بيتهم حيث مكنني هذا الاختراع العجيب من رؤية بطلي المفضل، جمال عبد الناصر، مما جعل هذه التجربة تلتصق بذاكرتي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق