السبت، 1 مايو 2010

هل نبدأ بإصلاح الأخلاق أم بإصلاح النظام؟

هاتان الواقعتان شهدتهما بنفسي:
الواقعة الأولى في جامعة القاهرة حيث كنت طالبا في كلية طب الأسنان وكان علينا في نهاية العام أن نؤدي الاختبارات النظرية والعملية. ويعد ذلك الامتحان الشفهي هو البوابة السحرية لكل الوساطات والمحسوبية، وأذكر أن زميلة في دفعتنا اسمها هالة كان والدها أستاذا للطب في جامعة إقليمية، وبالتالي كان صديقا لمعظم الأساتذة الممتحنين.
وقد شاء حظي أن أدخل الاختبار الشفهي مع هالة وزميلة أخرى في مادة وظائف الأعضاء. أمطرني الأستاذ الممتحن بالأسئلة الصعبة ووفقني الله في الإجابة، ثم اعتصر الزميلة الأخرى بأسئلة عويصة فتعثرت وأخفقت. وعندما جاء دور هالة الجالسة بجواري، تطلع إليها الأستاذ بحنان وقال:
ـ إزيك يا هالة؟!.. سلمي لي على بابا كثير.
ثم أمرنا بالانصراف. خرجت من اللجنة وأنا أحس بالمهانة والظلم لأنني اجتزت امتحانا صعبا، بينما هالة لم يوجه إليها الأستاذ سؤالا واحدا. ظهرت النتيجة فحصلت أنا وهالة في علم وظائف الأعضاء على تقدير ممتاز، أنا لأنني أحسنت الإجابة في الامتحان، وهي لأنها نقلت تحيات الأستاذ الممتحن إلى والدها.
أما الواقعة الأخرى فقد حدثت بعد ذلك بأعوام في جامعة إلينوي، حيث كنت أدرس للحصول على درجة الماجستير. فقد كانت أستاذة الإحصاء سيدة أمريكية بيضاء عنصرية تكره العرب والمسلمين، وبالرغم من أنني أديت الامتحان النهائي بدون خطأ واحد، فإنني فوجئت بأنها أعطتني تقدير «جيد جدا» وليس تقدير «ممتاز» الذي أستحقه. شكوت ما حدث إلى زميلة أمريكية فنصحتني بقراءة لائحة الجامعة ومقابلة الأستاذة.
قرأت اللائحة، فوجدت أن من حق الطالب إذا أحس بأنه مظلوم في اختبار ما أن يتقدم بشكوى ضد أستاذه، وفي هذه الحالة فإن إدارة الجامعة تعين مجموعة من الأساتذة الخارجين لإعادة تصحيح الامتحان، فإذا كان الطالب مخطئا في شكواه فإن الجامعة لا تتخذ ضده أي إجراء (والغرض من ذلك عدم تخويف الطلبة من تقديم الشكاوى)، أما إذا كان الطالب محقا في شكواه فإن النتيجة تتغير فورا ويتم توجيه إنذار رسمي إلى الأستاذ الظالم، مع العلم بأن ثلاثة إنذارات توجه إلى أي أستاذ تؤدي إلى فسخ عقده فورا.
ذهبت لمقابلة الأستاذة المتعصبة، ولما ناقشتها تأكد لي أنها ظلمتني فقلت لها بهدوء:
طبقا للائحة الجامعة فأنا أستأذنك في تصوير ورقة الإجابة لأنني سأتقدم بشكوى ضدك. كان لهذه الجملة مفعول السحر، حيث صمتت الأستاذة لحظات، ثم قالت إنها تحتاج إلى مراجعة الورقة مرة أخرى بعناية. ولما عدت إليها آخر النهار كما طلبت، أخبرتني السكرتيرة بأن الأستاذة عدلت تقديري إلى ممتاز.
فكرت طويلا بعد ذلك في مغزى هاتين الواقعتين. فالأستاذة الأمريكية المتعصبة ظالمة تماما مثل الأستاذ المصري، لكنها فشلت في ممارسة الظلم لأن القانون في جامعة إلينوي يراقب حقوق الطلاب ويعاقب من يجور عليهم مهما يكن منصبه. أما القانون في جامعة القاهرة فهو يمنح الأستاذ سلطات نهائية على الطلاب تجعله يفعل فيهم ما يشاء بغير
 حساب.
إن الذي يحقق العدل في أي مجتمع هو القانون الذي يطبق على الكبير قبل الصغير. ما حدث معي في جامعة القاهرة يحدث في مصر كلها. كثير من الناس يأخذون ما لا يستحقونه نتيجة لعلاقاتهم أو قدرتهم على دفع الرشاوى أو تزكيتهم من أجهزة الأمن أو الحزب الحاكم.
غالبية المصريين يعيشون في ظروف غير إنسانية.. فقر ومرض وبطالة ويأس كامل من المستقبل. القانون في مصر يطبق غالبا فقط على الضعفاء الذين لا يستطيعون الإفلات منه وتعطيله. الموظف الصغير الذي يضبط وهو يتلقى رشوة بمئات الجنيهات يحاكم ويلقى به في السجن، أما الكبير الذي يقبض عمولات بالملايين فلا أحد يقترب منه. في ظل هذا الظلم العام، لا يمكن أن نكتفي بدعوة الناس إلى مكارم الأخلاق بدون تغيير النظام الفاسد الذي يدفعهم إلى الانحراف. منذ أعوام، استضافني برنامج تلفزيوني شهير في قناة حكومية لمناقشة ظاهرة الرشوة في مصر. فوجئت بالمذيع يقدم الرشوة باعتبارها انحرافا أخلاقيا بحتا سببه الوحيد ضعف الضمير وقلة الإيمان. قلت للمذيع إن ما يقوله صحيح لكنه لا يكفي لتفسير الرشوة التي لا يمكن دراستها بدون مناقشة مستوى الأجور والأسعار، فاعترض بشدة وأنهى الحوار قبل الوقت المحدد.
والحق أن ما فعله المذيع يفعله المسؤولون في الدولة جميعا، فهم يقدمون الأخلاق باعتبارها شيئا ثابتا منفصلا تماما عن الظروف الاجتماعية والسياسية، وهم غالبا ما يرجعون المحنة التي تمر بها مصر إلى سوء أخلاق المصريين أنفسهم. ولعلنا نفهم الآن لماذا يتهم الرئيس مبارك المصريين دائما بالكسل وقلة الإنتاج.. هذا المنطق يتجاهل أن الإنتاج في أي دولة يستلزم، أولا، توفير تعليم جيد وفرص عمل متكافئة ورواتب تحقق الحياة الكريمة للناس.
وكل هذه مهام فشل نظام الرئيس مبارك تماما في تحقيقها للمصريين. في نفس السياق، نستطيع أن نفهم ما فعله وزير التعليم أحمد زكي بدر (وهو صاحب سجل أسود عندما كان رئيسا لجامعة عين شمس، فاستعان بالبلطجية ليضربوا بالأسلحة البيضاء الطلبة المتظاهرين داخل حرم الجامعة)، لقد ذهب الوزير بدر، في صحبة الصحفيين وكاميرات التلفزيون، في زيارات مفاجئة للمدارس وراح ينكل بالمدرسين الذين تغيبوا أو تأخروا عن الحضور، ثم ظهر في وسائل الإعلام يدعو المدرسين إلى فضيلة الانضباط.
كأنما هناك مدرسون طيبون خلقهم الله منضبطين ومدرسون آخرون أشرار ومنفلتون بطبيعتهم لا بد من عقابهم بشدة حتى يتعلموا الانضباط.. هذا المنطق المغلوط يتجاهل حقيقة أن مدارس الحكومة بلا أدوات ولا أجهزة تعليم ولا معامل وأن المدرسين يقبضون رواتب هزيلة تجعلهم متسولين، مما يدفعهم إلى إعطاء الدروس الخصوصية أو البحث عن عمل إضافي حتى يتمكنوا من إعالة أولادهم. كل هذا لا يريد الوزير أن يراه أو يسمعه لأنه سيرتب عليه واجب الإصلاح الحقيقي، وهو عاجز عنه.
إنه فقط يدعونا إلى مكارم الأخلاق بمعزل عن أي اعتبار آخر. نفس المنطق يتبناه وزير الصحة حاتم الجبلي الذي، بالإضافة إلى كونه واحدا من عمالقة الاستثمار الطبي في مصر، هو المسؤول الأول عن تدهور المستشفيات العامة إلى درجة تحولت معها وظيفتها، بدلا من علاج الفقراء ورعايتهم، إلى الإجهاز عليهم وإرسالهم إلى العالم الآخر.
في وسط هذا الحضيض، يقوم وزير الصحة، بصحبة الصحفيين والكاميرات دائما، بزيارات مفاجئة للمستشفيات العامة لتتصدر صورته الصفحات الأولى للصحف وهو يعاقب الأطباء المتأخرين عن موعدهم ويلقي عليهم محاضرة عن رسالة الطبيب الإنسانية.
وهو، بالطبع، يتجاهل أن هذه المستشفيات تفتقر في عهده السعيد إلى أبسط إمكانات العلاج وأن الفئران والحشرات المختلفة تمرح في أرجائها وأن هؤلاء الأطباء البؤساء لا يجدون ما ينفقون به على أولادهم وأنهم يعملون ليل نهار في عيادات خاصة ليكسبوا في شهر كامل ما تدره على سيادة الوزير مستشفياته الخاصة في دقائق.
إن الدعوة إلى إصلاح الأخلاق بمعزل عن الإصلاح السياسي، بالإضافة إلى سذاجتها وعدم جدواها، تؤدي إلى تشويش الوعي وشغل الذهن عن الأسباب الحقيقية للتدهور. لا يمكن أن نطالب المواطنين بأداء واجباتهم وهم محرومون من أبسط الحقوق. لا يجوز أن نحاسب الناس قبل أن نوفر لهم الحد الأدنى من العدالة. أنا لا أبرر الانحراف وأعلم أن هناك دائما فئة ممتازة من الناس تظل عصية على الانحراف مهما ساءت الظروف، لكن معظم الناس تتأثر أخلاقهم بالنظام الذي يحكمهم.
إن إحساس الإنسان بالعدالة يخرج أفضل ما فيه من صفات إنسانية، وبالمقابل فإن إحساسه بالظلم واليأس غالبا ما يدفعه إلى الانحراف والعدوان على الآخرين. مهما تكن بلاغة المواعظ التي نلقيها، فإننا لن نقضي أبدا على الدعارة إلا إذا قضينا على الفقر، ولن نتخلص أبدا من النفاق والرشوة والفساد قبل أن نقيم نظاما عادلا يعطي لكل إنسان حقه ويعاقب المسيء مهما يكن موقعه ونفوذه. الإصلاح السياسي هو الخطوة الأولى للتقدم، وكل ما عدا هذا مضيعة للوقت والجهد.
الديمقراطية هي الحل..

علاء أسواني

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق