منذ فتحت عيني وأنا أتعاطف مع الغاضبين، لأن أول كلمات حفظتها عن ظهر قلب -دون قصد- هي ديباجة «أوراق الزيتون» لمحمود درويش، حيث يتكلم الشاعر مع قراء دواوينه اللاحقة بنبرة حانقة: «غضب يدي غضب فمي ودماء أوردتي عصير من غضب/ يا قارئي لا ترج مني الهمس لا ترج الطرب/ حسبي بأني غاضب والنار أولها غضب/. وأول كتاب أكملت قراءته بالفرنسية، بعد تلاوة «بخطوات كبيرة» (آ غران بّا)، هو «الإنسان المتمرد» لألبير كامو. وعندما أستحضر أول مرة شاهدت فيها التلفزيون، أرى بيت المقدس بالأبيض والأسود، وأسمع فيروز تغني: الغضب الساطع آت/ وأنا كلي إيمان... الغضب ثروة لا تقدر بثمن، رأسمال من لا يملكون إلا كرامتهم، وسلاح فتاك في يد رجل السياسة، ولعل مشكلة السياسيين المغاربة أنهم فقدوا قدرتهم على الغضب، بشكل يدعو إلى الرثاء، ولم يعودوا يستطيعون قول «لا»، من اليمين إلى اليسار إلى الوسط. أن تكون غاضبا في المغرب اليوم، معناه أنك نزيه ومتفائل، لأن التشاؤم يقود إلى الانتهازية واليأس، والسياسي الذكي من يستطيع «تحويل يأسه إلى غضب»، كما يقول بطل «شرق المتوسط» لعبد الرحمان منيف. ولأنني أتعاطف مع الغاضبين، لا يمكنني إلا أن أصفق لانسحاب ثلاثة قياديين في «الاتحاد الاشتراكي»، من المكتب السياسي، احتجاجا على المصير الذي آل إليه حزب «القوات الشعبية». الرسالة التي بعثها علي بوعبيد والعربي عجول ومحمد الأشعري إلى عبد الواحد الراضي واضحة، لا تقبل التأويل: «واك واك آعباد الله، هاذ الشي بزاف، ما بقيناش لاعبين!». بيان صغير، يطالب بإيقاف المهزلة ويصالح الاتحاديين مع ذلك المعدن النادر الذي كانوا يملكون احتياطيا هائلا منه قبل أن يبدده الصغار في أقل من عشر سنوات، وينتهي الحزب بين يدي الراضي، بالقدر خيره وشره، وأشخاص «يشتفون» على «الوردة» كي يعبروا إلى حيث تفرق الغنائم والمناصب والمراتب. لكن الغضب «فيه وفيه»، كأي معدن، هناك الحقيقي والمزيف، ولا نحتاج إلى كثير من الكياسة كي نفهم أن الأشعري ما كان ليوقع البيان لو أنهم أعطوه سفارة في واغادوغو، ويريد أن يضغط كي يظفر بنصيبه من الكعكة. الاتحاديون يعرفون «خروبهم»، والرأي العام لا يرضع أصبعه. مع ذلك، مرحبا بكل من يريد المشاركة في الهدم، لأن ما بني على باطل فهو باطل، وبيت «الاتحاد» كما يريده مهندسو المرحلة، يستحق أن نهوي عليه بالفؤوس والمعاول و»الطراكسات»، لعلنا نشفي الغليل، وذلك أضعف الإيمان. دخلت إلى «الاتحاد الاشتراكي»، كما يدخل شخص إلى أحد المقاهي صدفة ويتبادل التحية مع أشخاص لا يعرفهم، ثم يجد نفسه منخرطا معهم في القهوة والكلام... لمدة عشرين عاما! حين دفعت باب مقر متآكل، بداية التسعينيات، رأيت غرفة شبه فارغة وملصقات على الحائط وشخصا مفتول العضلات، وخيل إلي أنني في صالة لكمال الأجسام أو تعلم الكاراطيه، لولا الكوفية التي على كتفي المناضل ذي العضلات البارزة وصور المهدي بن بركة وعمر بن جلون ومحمد كرينة، التي لا تشبه صور بروس لي وجاكي شان... وجدت أشخاصا يرددون شعارات حانقة على الوضع، استعدادا لفاتح ماي، وصرت واحدا منهم. وبدأ هؤلاء الأشخاص في التناقص، مع مرور السنوات، حتى صاروا فصيلة على طريق الانقراض، ولا شك أنهم مسرورون الآن، وهم يرون أخيرا «رْجالْ» وسط «الشمايت» الذين باعوا تركة عبد الرحيم بوعبيد بأبخس
الأثمان!
الأثمان!
جمال بدومة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق